السبت، 19 يونيو 2010

أيها الاسكندر لا تحجب عني النور!

أيها الاسكندر لا تحجب عني النور!

كمال ديب
(لبنان)

233 قبل الميلاد

لوحة فريدون رسولي

عندما انتصر الاسكندر ذو القرنين على إمبراطوريات الشرق والغرب، واحتل بلدان شرق المتوسط وبلاد فارس، حتى السند والهند، بدأ ينظر إلى كينونته على أنها تحوي صفات إلهية دونها البشرية جمعاء. فكانت أوامره وتصرفاته تنضح بالجبروت والسلطة المطلقة التي كانت شأناً عادياً في أمم الشرق في القرن الثالث قبل الميلاد، زمن كان الحاكم هو الإله كما كانت الحال في مصر اخناتون.
وبعد سنين الاغتراب في سهوب آسيا الوسطى ووادي النيل وأرض الرافدين وشاطئ لبنان، عاد الاسكندر إلى اليونان لزيارة وطنه الأم (للمناسبة، اسم اليونان عممه العرب ليشمل بلاد الإغريق، ولكنه أساسا اسم أرخبيل من الجزر في بحر ايجه ومنها جزيرة رودس التي يعرفها عرب شرق المتوسط، فيما يطلق الإغريق على بلادهم إلى اليوم اسم "هيلاذا" نسبة إلى الحضارة الهيلينية إذ سعى الاسكندر إلى "هلينة" العالم القديم). فكانت هذه العودة إلى وطنه الأم صحوة للاسكندر (لا صحوة ضمير) إذ ابلغه مستشاروه أنّ الفلاسفة والحكماء في اليونان ينتقدون تصرفاته وأحكامه وعدم مراعاته لحقوق البشر.
ولم يمرّ هذا النبأ لماماً لدى الاسكندر لأنه درج على احترام الحكماء مذ نصح له أبوه الإمبراطور فيليب المقدوني بذلك. فلم يأمر الاسكندر بقطع رأس من انتقده من هؤلاء كما درجت العادة في البلدان التي أخضعها في الشرق، ومنها صور عاصمة فينيقيا، التي قاومته فحاصرها وقتل شعبها. فطلب الاسكندر ان يزوره الفلاسفة والحكماء ليطلع على رأيهم ويناقشهم، لكنهم رفضوا جميعاً على أساس "ان الحاكم يحتاج إلى العالم" (بكسر اللام) وليس العكس. فأعطى تعليماته بتحضير سلسلة زيارات للحكماء في بيوتهم، وكانت الزيارة الأولى إلى منزل الحكيم العجوز ديوجينوس.
وبعدما جلس الاسكندر في دارة ديوجينوس المتواضعة، سأله الفيلسوف ان يتناول بعض الفاكهة، فأخذ حبّة من التين الأبقراطي ووضعها في فمه وسأل الاسكندر العجوز وهو يمضغ التين: "ماذا تريدني ان افعل لك يا سيدي الحكيم؟". وأطرق ديوجينوس رأسه إلى الأرض. كان في استطاعته ان يحصل على مال وعقار كثيرين بمجرّد ان يطلبهما إلى الإمبراطور الذي يجلس صاغراً بين يديه بكل تواضع وهو يأكل التين البري. لكن لا، فمبادئه لا تقدّر بمال وسيحرق الناس مؤلفاته لو انخرط في سلك الفاسدين من الأغنياء الضاربين بسيف السلطان.
ووقف الاسكندر يحيط به معاونوه من كبار الضباط في حين بقي ديوجينوس منصتاً مفكّراً على كرسيه. وكرر الإمبراطور سؤاله، فردّ العجوز في هدوء: "أريدك يا سيدي الإمبراطور ألا تحجب عني النور!".
وتعجّب الاسكندر ونزع خوذته التي يزينها قرنان من كل طرف ووضعها على الطاولة فبدا إنسانا عادياً، وقال: "إن ضوء النهار يملأ البيت فكيف تقول أني احجب عنك النور؟". وغادر الاسكندر دارة ديوجينوس قبل ان يفسخ له في المجال للرد، وامتطى فرسه مسرعا معتقدا ان الحكيم فقد صوابه، وأمر معاونه بإلغاء باقي الزيارات إذ ندم على هذه المبادرة حيال الفلاسفة.
ما قصده ديوجينوس انه بسبب تجبر الاسكندر وتحكمه في مقدرات البلاد الإغريقية وبلاد الشعوب الأخرى خفت حركة الإبداع إذ ساد القمع وانعدام مناخ الحرية وغياب الحق وطغيان الباطل. لذا كان مطلب ديوجينوس ألا يحجب الاسكندر نور الحرية عن المبدعين والمفكرين. وكان ديوجينوس يأمل في ان يستطرد في الكلام ويسأله الاسكندر ان يوضح لكي يشرح ما في رأسه. لكن الإمبراطور كان عديم الصبر في أسلوبه العملي فلم يستسغ أسلوب الحكيم البطيء والتراجيدي الذي يحتاج إلى "تزييت" لينطلق خلال دقائق في سرعة الضوء.
لم يندم ديوجينوس على ضياع فرصة الثروة من يده أو على انه لم يكن سريعا بما فيه الكفاية لكي يشرح للإمبراطور ما يقصده. فحاكم كهذا، عديم الصبر، لا يصغي إلى الرعية وخاصة إلى الحكماء من الشعب، لن يفقه المعاني العميقة للحرية فينظر إليها من منطلق تأمين المعاش. فلاسكندر، بعدما أصبح ملك الشرق والغرب، أخذ مسلك الاستبداد وحجب النور فضربت العتمة ممالك آسيا الصغرى ومصر ووادي النهرين واليمن والحبشة وفينيقيا وفارس والهند والسند وما وراء النهر.

470 قبل الميلاد

صديق لي دكتور في الفلسفة والأدب الفرنسي لفت نظري إلى أن هذه القصة إنما حصلت بين الفيلسوف سقراط، الذي لم يعاصر الاسكندر، وأحد ملوك اليونان (ربما كان الملك صولون). ووجهني الصديق إلى كتاب للفيلسوف العربي أبي يعقوب الكندي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، وجاء فيه:
"كان سقراط يتشرق في الشمس يوما، فوقف عليه الملك قائلا له: يا سقراط ما يمنعك من إتياننا؟ فقال له الشغل بما يقيم الحياة (يقصد الحياة الدائمة)، فقال له الملك: لو صيرته إلينا أكفيناك ذلك (يعني المعاش). فقال سقراط انه لا يحتاج إلى مال. فقال الملك: وما حاجتك إذن؟ فقال سقراط: حاجتي ان تزيل ظلك عني فلقد منعتني عن الشمس. أيها الملك تعدني بما يقيم الحياة وليس لسقراط حاجة إلى حجارة الأرض (القصور) وهشيم النبات (المأكولات المطبوخة جيدا بالتوابل). فقال له الملك: يا سقراط لقد حرمت نفسك لذّات الدنيا ونعيمها من أكل اللحوم الطيبة إلى شرب الخمور الصافية المعتقة إلى المناكح والملابس الفاخرة. فقال سقراط: ليس ذلك بمنكر لمن رضي لنفسه التشبه بالقرود (يقصد تقاليد المجتمع الاريستوقراطي) وان يجعل بطنه مقبرة للحيوانات (يقصد تناول اللحوم).
وجاء عن سقراط انه بعدما قبض عليه الحرس ليقتلوه بكت عليه زوجته، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: كيف لا أبكي وأنت ستقتل مظلوما؟ فقال: أتريدينني ان أُقتل ظالما؟
سعى سقراط إلى معرفة الحقيقة المطلقة عبر الأخلاق المجردة الشاملة واتخذ شعارا لحياته عبارة "أيها الانسان اعرف نفسك". فحارب السفسطائيين الذين يقولون ان الأخلاق مسألة نسبية تتعلق بالفرد.

866 ميلادياً

أعجبتني قصة سقراط بأسلوب الكندي أكثر حيث رسخت في بالي كلمة "يتشرق" (أي ان وجه سقراط كدوار الشمس يبحث عن النور باستمرار). فأمضى حياته يسأل: ما الفضيلة؟ وما الحكمة وما أساس الأخلاق؟ وهل يمكن صاحب المعرفة ان يكون بلا أخلاق؟ وكان نتيجة مسعى سقراط انه مات شهيد مبادئه ولم يهرب من السجن رغم ان ذلك كان ممكنا. فكان موته بابا إلى الحياة التي سمت به إلى شواهق الإنسانية. ثم جاء أفلاطون أحد تلامذة سقراط الذي دوّن في كتاب "فيدون" أيام سقراط الأخيرة.
وبعد فترة من مراجعتي لقصة ديوجــين وقصة سقراط عثرت على مرجع آخر يؤكد ان الفيلسوف الكندي، الذي ولـــد في الكوفــة عـــام 866 ميلاديا وعاش في بغداد، خلط بين سقراط وديوجينوس الذي وفد عليه الاسكندر وأراد التودد إليه فصده هذا الصد. وهذا مذكور في كتاب "بلوتارك"، المؤرخ الروماني لحياة الاسكندر، وفي كتاب البروفسور في جامعة بيروت الاميركية ماجد فخري ("دراسات في الفكر العربي" عن "دار النهار"، بيروت).
وكان الكندي (نسبة إلى قبيلة كندة في الجزيرة العربية) أول فيلسوف عربي في التاريخ تخطى علماء الكلام إلى المسائل الفلسفية الصرفة والفكر المجرّد، فلم يتطرّق إلى ما شغل المفكرين في ذلك الزمان من مسائل تتعلّق بتوافق الفلسفة بالشريعة، بل عالج المعضلات الفكرية على أساس إنها مسائل فلسفية محضة حول الكون والفساد وقوة العقل والإدراك، فسبق فلاسفة الغرب بعدة قرون وشعّ النور على ضفاف دجلة.

1841 ميلادياً

اكتشاف الكهرباء واختراع ضوء اصطناعي بحجم غرفة صغيرة لإنارة الليل أمام السفن. دعم نور الشمس في النهار وسط ثورة صناعية في أوروبا وانقلابات وحروب وثورات. ونهضة فكرية فلسفية موسيقية أدبية من أميركا الشمالية إلى روسيا.

1998 ميلادياً

عندما انهار الاقتصاد الاندونيسي عام 1997 ووافق صندوق النقد الدولي على منح اندونيسيا قروضا بشروط صعبة جدا تقيّد سيادتها، نشرت الصحف عام 1998 صورة الرئيس الاندونيسي وهو يوقّع على صكوك "التنازل" لصندوق النقد، فيما وقف أمامه كالمارد ميشال كامديسو (الصغير القامة نسبيا) وهو أعلى مسئول في صندوق النقد، يراقب التوقيع بوجه مغرق في الجدية. شُبّه للبعض أنهم شاهدوا ظلال الاسكندر ذي القرنين ترتسم على الحائط خلف كامديسو وهو يحجب نور الشمس عن اندونيسيا.

2003 ميلادياً

انقطعت الكهرباء في أميركا وكندا ولبنان وبريطانيا لأسباب مختلفة، وشحّت إلى درجات مميتة مع ارتفاع درجات الحرارة في فرنسا. فانقطع النور وسادت العالم ظلال اسكندر جديد في واشنطن يعاونه ازلام في دول كبرى ودول العالم الثالث.
حجبوا عنا النور؟
إنها إذن عولمة الألفية الثالثة، فلنصم عن الملذات ولنكف عن اللحوم.

النهار" - الأحد 14 أيلول 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق