السبت، 19 يونيو 2010

”هذا الجسر العتيق: سقوط لبنان المسيحي؟“



خيارات مستقبل الواقع اللبناني

بمناسبة صدور كتابه الجديد نشرت صحيفة ”الشرق“ الخليجية هذه المقابلة التي أجراها غسان بو حمد مع ”المفكرّ اللبناني الكندي“ الدكتور كمال ديب، كما وصفه، حول عمله الأخير "هذا الجسر العتيق: سقوط لبنان المسيحي؟" الذي تقوم "المستقبل" وابتداء من العدد القادم بنشر بعض ما ورد فيه وبقلم كاتبه الذي خصّ "المستقبل" بمقالات ذات دلالة وإعادة نشر هذا اللقاء يهدف إلى تعريف القارئ أكثر بماهية الكتاب ومضمونه مما يسهل متابعة ما ينشر لاحقا.


الدكتور كمال ديب هو خبير اقتصادي كندي من أصل لبناني، مؤلف لعدد من الكتب الصادرة في بيروت ولندن بعدّة لغات، شارك مؤخراً، ممثّلاً الحكومة الكندية في مؤتمر دولي عقد في بون حول شؤون الهجرة والأقليات في الدول الصناعية الكبرى.
يصدر في بيروت هذا الأسبوع آخر أعمال الدكتور ديب بعنوان "هذا الجسر العتيق: سقوط لبنان المسيحي؟" (عن دار النهار للنشر)، في 531 صفحة من القطع الكبير، حيث عقدت حوله ندوة فكرية ضمن نشاطات معرض بيروت العربي والدولي للكتاب. التقته "الشرق" على هامش المؤتمر وسألته عن كتابه الأخير هذا.

* كتابك جاء مناسباً في توقيته حيث أصبح صوت المسيحيين في أنحاء المشرق شيئاً من الماضي، فيما أدّت الهجرة وانحسار الدور السياسي إلى تراجع هذا الصوت.
د. ديب: يبقى لبنان بحجم الوجود المسيحي الكبير نسبيّاً فيه الواحة الأخيرة التي يمكن أن يستمرّ فيها العيش المشترك مع المسلمين والنفوذ السياسي للمسيحيين. صُورُ اليوم مجتمعة قد تخلق سيكولوجية مريرة بأنّ العد العكسي قد ابتدأ للمسيحيين في لبنان أيضاً، ليس فقط من ناحية نفوذهم السياسي التاريخي في بلد خلقوه بمساعدة فرنسا على قياس طموحاتهم في المشرق، بل عددياً أيضاً. فإذا كان إختلال الديمغرافيا لصالح المسلمين عام 1990 (60 إلى 40 بالمئة) من أسباب إخراج اتفّاق الطائف بالنص الذي أتى به، فثمّة من يقول أن اختلال الديمغرافيا المستجد (70 إلى 30 بالمئة لصالح المسلمين) قد يؤدي إلى إعادة النظر في الدستور.

الشرق: وماذا سيكون عليه لبنان بدون مساهمة ودينامية سكانه المسيحيين؟ وما هو موقف المسلمين إذأً من هذه التطورات؟
د. ديب: لقد قدَّرَت عدّة مراجع نسبة المسيحيين في لبنان بثلث عدد السكان في لبنان عام 2000، وباتت جميع التقديرات تشير إلى أن عدد المسيحيين المقيمين في لبنان مع حلول العام 2010 لن يتجاوز 27 بالمئة، فيما شكّل الشيعة 30 بالمئة تقريباً والسنّة نسبة مماثلة للشيعة. وتشير دراسة ليوسف الدويهي إلى أنّ نسبة الموارنة المسجّلين (ومنهم غير مقيم) قد تدّنت إلى 19 بالمئة من السكان عام 2005 بعدما كانوا يشكـّلون نسبة 80 بالمئة من دويلة جبل لبنان عام 1918. أمّا الروم الأرثوذكس فرغم حجمهم الكبير نسبيّاً حالياً (7 بالمئة) إلا أنّهم لم يسعوا إلى "أرثوذكسية سياسية"، ولذلك فهم وأقليات مسيحية أخرى يعوّلون بالدرجة الأولى على الموارنة لإدارة سفينة النجاة نحو لبنان ديمقراطي يضمن حقوق الأقليات.

الشرق: وهل ثمّة ضمانات لجعل هذا الوجود مستقراً؟
د. ديب: في ظل التحوّلات الديمغرافية والاقليمية المستمرة وفي غياب الدولة العلمانية الديمقراطية في لبنان، ليس مستغرباً أن يؤدي الوضع إلى انحسار للمسيحيين ربما إلى نسبة 20 بالمئة من السكان عام 2020 أو 2025. يمكنني أن أكون متشائماً وأقول أنّه لا يوجد أي ضمانات، قياساً إلى الماضي القريب والبعيد، أنّ تتحرّك الطوائف عند استحقاق نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان عام 2014 لتطالب برئيس جمهورية مسلم (سني أم شيعي؟). وتكون ساعتئذ قد اكتملت مسألة إفراغ المشرق العربي من النفوذ المسيحي المهم وبات لبنان شبيهاً بسورية ومصر من حيث تواجد مسيحي بدون نفوذ أو سلطة ذات قيمة. ولكن الديمغرافيا ليست قدراً بل يمكن أن تلغي توقعات الديمغرافيين عوامل سياسية وثقافية واقتصادية، فيعود ويتعزّز الدور المسيحي ويلي ذلك صعود في أرقام المسيحيين في لبنان والمشرق وازدهار وجودهم. ولذلك على الفعاليات والنخب المسيحية وقياداتهم السياسية ان تلتقي مع المسلمين المتنوّرين على خطة طوارئ لاحياء الدور المسيحي في لبنان.

الشرق: يعني أنّك متفائل؟
د. ديب: ثمّة أكثر من سبب للتفاؤل، فلقد تأكّد الزعماء المسلمون بأنّ لبنان يزول ويغرق في حرب بين المسلمين سنّة وشيعة بدون مسيحييه، وما زال لبنان، وإن نسبيّاً، يعمل بموجب النظام الديمقراطي وفصل السلطات، وخرج جيشه من الأزمات الأخيرة موحّداً، فيما استعيدت هيبة رئاسة الجمهورية عام 2008 بعد سنين من الانحدار، وحقّق اتفاق الدوحة بعض التحسّن في التمثيل المسيحي في البرلمان، كما ظهر أكثر من مؤشر عام 2008 إلى انعطاف المنطقة نحو السلام.

الشرق: وكيف يمكن ولوج هذا العمل المشترك؟ لا تقل بالحوار فحتى الذين انخرطوا في الحوار في لبنان أصابهم الملل من تعدّد الملفات والمطالب والمطالب المضادة، وباتوا يميلون إلى الابتعاد عن الحوار.
د. ديب: لا بديل عن الحوار. حروب لبنان وحلقات العنف أثبتت أنّ لا بديل عن الحوار. والدليل أنّ السلم الأهلي جاء بعد سلسلة حوارات في الثمانينات (منذ وثيقة سليمان فرنجية مروراً بمشروع الياس سركيس ومؤتمري جنيف ولوزان والاتفاق الثلاثي ومؤتمر الطائف) تتوّجت بحوار الطائف الذي صاغ دستوراً جديداً، وحوار الدوحة الذي أوجد تسوية للأزمة عام 2008. فلم يكن ممكناً حلّ الأمور عبر فوهة المدفع. إرتكب اللبنانيون كافة المعاصي بدءاً بتزوير الانتخابات إلى التطهير المذهبي والاثني للمناطق والذبح على الهوية، ولكنّهم خسروا جميعاً عندما نُظّفت المناطق واستتبت الأمور في الثمانينات لأمراء الحرب، وانتقل الاقتتال الى داخل كل فئة. فلم يكن أسوأ من حكومة سيئة مقتها اللبنانيون قبل الحرب سوى أمير حرب يحكمهم بأسلوب دكتاتوري أثناء الحرب، فغابت المؤسسات الدستورية وبقي "الأمر لي" لسان حال قادة الميليشيات. وهذا عانى منه اللبنانيون وباتوا توّاقين إلى دولة عصرية حديثة وإلى جيش شرعي. لم يخل الأمر أنّ مراحل حوار وطني عديدة كانت مزيّفة ولم يكن هدفها الوصول إلى اتفاق بمقدار ما كان تسجيل موقف من جهة تجاه جهة أخرى أو لحفظ ماء الوجه والظهور بمظهر الساعي إلى الحوار والحل. ومن البديهي أنّ تسجيل الموقف كان يعني التصادم وتعويم الشقاق واشتداد الخلاف، وبالتالي إلى كلام تصعيدي عبر الأثير وشتائم وانخفاض مريع لسلّم التخاطب الحضاري. وكل هذا كان يحصل تحت شعار المطالبة بحقوق هذه الطائفة أو تلك أو بتحسين موقعها في التركيبة اللبنانية، ومحاصصة وغنائم بين الزعماء. هذا النمط من الحوار طغى على كل أسلوب عداه في لبنان ما بعد الحرب مع اصرار الجميع على الديمقراطية.

الشرق: وما هي شروط العمل المشترك لكي يستمر ويتنعش التنوّع اللبناني؟
د. ديب: العمل المشترك يتطلب أولاً "الحد الأدنى من إرادة العيش معاً في بلد واحد ومجتمع واحد" على حد قول ارنست رنان. وهذا المبدأ يتضمّن الشروط التالية:
التفاهم على أنّ المحافظة على لبنان تعني أنّ الحوار المتواصل أمر لا بد منه. وأنّ هذا الحوار يجب أن يؤدي إلى تنازلات وحلول وسطية. ففي مجتمع متعددي لا يحصل طرف على كل طلباته.
التفاهم على ضرورة المحافظة على سيادة لبنان واستقلاله وعدم اللجوء إلى حماية ودعم قوى خارجية لطموحات داخلية.
ضرورة الابقاء على جيش شرعي وطني قوي وموّحد. إذ كما تبيّن من حروب لبنان وغيره أنّ أولى مظاهر تفتّت الدول التعددية هي تعطيل الجيش وتهميش دوره. لأنّ مهمة الدفاع عن المجتمع المجزّأ إلى كانتونات تصبح من صلاحية الميليشيات ويستبيح الخارج حدود البلد بحجّة مساعدة هذا أو ذاك أو فرض الأمن بتكليف دولي.
التفاهم على لغةِ تخاطبٍ سياسيّةٍ أخلاقية. إذ من المعقول جدّاً أن يُساء استعمال التعابير والمفردات في مجتمع تعددي لتعني أشياء مختلفة وبالتالي أن تؤدي إلى مزيد من سوء التفاهم وتعميق الخلاف وربما إلى العنف.
وكل هذا يحتاج إلى بيئة إقليمية هادئة خاصة بين العرب واسرائيل وكذلك بين العرب أنفسهم، فلا يتهوّر أحدهم في مغامرات تكون نتيجتها مزيداً من المآسي للبنان.
التفاهم بين اللبنانيين على مبادىء سياسة لبنان الخارجية حتى لا يتم مزج المصالح الطائفية الضيقة بمصالح الدول الخارجية (ايران والسعودية واسرائيل وسورية والولايات المتحدة) بعيداً عن مصلحة لبنان.
التركيز على المنهاج التربوي في المدارس والجامعات كي ينفتح أبناء الطوائف على بعضهم البعض ويتعرّفوا إلى عادات بعضهم وتاريخهم وديانتهم، الخ. من السهل جداً في مجتمع متعددي خلق جزر تربوية ما يؤدي إلى حرب ثقافية وعقلية عدائية تجاه الآخر.

الشرق: ومن الذي سيتحاور؟
د. ديب: للحوار أهله في لبنان وهم كُثر. لقد دخل اللبنانيون في عدد من الحوارات الوطنية البنّاءة لمعالجة أمورهم السياسية. ومتى وُجدت إرادة الحوار سيكون في لبنان حشد كبير من المؤدّبين والمثقفين والحريصين على إنجاحه. وفي الحال، فإنّ المطلوب من الحوار هو مزج الديمقراطية بالأفكار النيّرة للديانات السماوية ليصبح مثمراً يعالج قضايا مشتركة لكل اللبنانيين،كمسائل الوضع الاقتصادي والمعيشي وحقوق الانسان والحريّات العامة، ووضع أسس لقيم حضارية مشتركة وللمشاركة السياسية الصحيحة. وثمّة مجموعة من القواسم المشتركة تجمع بين مثقفين لبنانيين من طوائف عدّة كاللقاء على العلمانية والحقوق المدنية وفصل السلطات والديمقراطية. ويشير أكاديميون، كأحمد بيضون ونوّاف سلام مثلاً، إلى أنّ الحوار سيكون صادقاً إذا تجاوز الطوائف والخطاب الطائفي ووصل إلى تفاصيل مجتمع ديمقراطي علماني حيث يصبح المرء متحرّراً فعلاً من قيود طائفته وسلطة رجال الدين، التي لا تتزحزح، على حياته من الولادة إلى الوفاة.

الشرق: ما هي العناوين العريضة اقليمياً خاصة أنّ للمسألة اللبنانية أبعاداً اقليمية لا تخفى بل هي العامل الأهم في نجاح التلاقي الداخلي؟
د. ديب: أول خطوة في تحديد الخيارات هي التخلّي عن الرهانات والاعتراف أنّ طرح المواجهة بين الشرق والغرب فيه شيء من المبالغة وليس مسألة حتمية، فلا ترمي ثقلها مع هذا الطرف ضد ذاك في "المواجهة". المواجهة بين "غرب مسيحي" و"شرق اسلامي" هي مرحلة عابرة لأنّ الخلاف ليس حول جوهر الدياناتين المسيحية والاسلام والهوّة بين الشرق والغرب مليئة بالأوهام والخرافات. كما أنّ الخلاف ليس اقتصادياً، إذ أنّ العالم الاسلامي بأسره منضو ومتأقلم جدّاً مع النظام الرأسمالي المعولم الذي تتزّعمه أميركا وتسير فيه أوروبا واليابان. كما أنّ ليس حتى سياسياً لأنّ أي خلاف سياسي يمكن أن تحسمه الحوارات والاتفاقات.
لا يجب أن يقبل مسيحيو لبنان والمشرق أن تكون أوروبا هي المجسّد للمسيحية في العالم. لقد قضت أوروبا الكاثوليكية على الامبراطورية البيزنيطة عبر الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر فانعزل مسيحيوالمشرق عن التواصل مع أوروبا في قرون من الاضطهاد المملوكي والذميّة تحت الأتراك. ثم تركت روسيا أرثوذكسيتها بعد الثورة البلشفية وأصبحت شيوعية في القرن العشرين. ولكن هذ االتاريخ لا يعني أنّ المسيحية المشرقية لا وزن لها، بل عليها أن تكون رائدة بمسيحية وطنية مميّزة بعدما زال نفوذ روسيا واليونان أمام المدّ الغربي الذي أصبح اسمه الحضارة اليهودية - المسيحية Judeo-Christian Civilization تقوده الولايات المتحدة.
ولكن المحك في كافة الأزمات التي تعصف بالمنطقة هو الزمن. إذ لربما استغرق حلّها سنوات أو عقد أو عقدين، وليس من ضمانة أنّ مسيحيي المشرق - في العراق أو لبنان أو فلسطين - سيصمدون أم سيضعفون أكثر ويغادرون. من هذا المنطلق وطالما أنّ الخطر الإقليمي والدولي هو الأكثر حضوراً، نبدأ معالجة خيارات المسيحيين في الصفحات التالية بالجانب الاقليمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق