سيرة بيروت الثقافية.. من جبران إلى فيروز
ضمر دورها مع مغادرة الكتاب العرب ورحيل الأقلام اللبنانية إلى باريس ولندن
|
تاريخ الثقافة يرتكز على تغيرات اجتماعية تضج وتختمر في أماكن لا يلتقطها وارتداداتها إلا الراسخون في العلم. لأن رصد الظاهرات وتوقع المتغيرات يحتاج إلى موهبة تفكيك الحراك الاجتماعي مقدمة لأزمة وعميقة لتوقع التطورات والمختلف الثقافي.
كمال أبو ديب في كتابه الصادر عن «دار النهار» في بيروت 2010 تحت عنوان «بيروت والحداثة - الثقافة والهوية من جبران إلى فيروز»، يرصد تاريخ بيروت الثقافي وحاضرها وما آلت إليه في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، محاولا تحليل تاريخها من 1891 إلى 2010 راسما موقعها من خلال مقاربة هويتها كحاضرة عربية وأوروبية تراجع دورها مع التفسخ الطائفي والمذهبي. لذا إشكالية الكتاب هي: كيف يمكن لبيروت أن تستعيد دورها كمحور ثقافي عربي وملتقى لحضارات الشرق والغرب؟
بنى المؤلف فصول كتابه الـ12 على مقاربات ومقارنات ونماذج حدد فترتها الزمنية من أوائل العشرينات من القرن الماضي، أي ما عرف بعصر النهضة عبر نموذج جبران خليل جبران، وحتى عام 2010 آملا بولادة ثانية لبيروت عاصمة ثقافية.
في الفصل الأول قارن المؤلف بين الأديبين الألماني هيرمان هسّه، واللبناني جبران خليل جبران، مبرزا ومقدما نموذجا لعالمية الأدب اللبناني وتنوع مناهله. وكشف كيف أن أديبين، أحدهما لبناني والآخر ألماني، قد لجآ إلى الفكر الأوروبي والتراث الآسيوي في أعمالهما، وبصفة مستقلة في أوائل القرن العشرين، وأنتجا مؤلفات خالدة.
وتطرق في الفصل الثاني إلى المفكرين الفلسطينيين، هشام شرابي وإدوارد سعيد، حول الثقافة وهموم المثقف. ويعتبر هذا الفصل المحور النظري للكتاب يعود إليه المؤلف كركيزة نظرية لما يحتويه من معالم، ويستضيء بالخلاصات التي وصل إليها في بحثه كبوصلة لما يلي من الفصول.
يتحدث المؤلف في الفصل الثالث عن الفترة الانتقالية من عصر جبران النهضوي (العشرينات وأوائل الثلاثينات) ودور زميله ميخائيل نعيمة إبان فترة التحولات وصولا إلى عصر بيروت الأدبي الذهبي الذي بدأ في الخمسينات.
في الفصلين الرابع والخامس ركز المؤلف على الأخوين رحباني وفيروز وأثر هذا الثلاثي على عقدي الخمسينات والستينات، وكيف انبثقوا من رحم فكرة لبنان الجغرافي ليسهموا في بناء لبنان الثقافي مستفيدين من الفلكلور والتراث. يتعامل المؤلف في هذين الفصلين تحديدا وفي باقي فصول الكتاب عامة مع مصطلح الثقافة على أنه ليس المقاربة الإبداعية فقط بل أيضا الحراك الإنساني. فالثقافة كعملية إبداع تعني نتاجات الأدب والشعر والرسم والمسرح والموسيقى والعمارة وغيرها من الفنون. أما الثقافة التي يتحرك في تفاصيلها المؤلف فتتراوح وتمزج بين هذه الفنون واللغة والعادات والتقاليد والتطور الاجتماعي الذي يجمع شعبا إلى قطعة من الأرض.
هكذا نراه يحلل حياة بيروت الثقافية في فترة الحرب في السبعينات في الفصل السادس والسابع متخذا حقبة الشاعر خليل حاوي وسنواته العشر الأخيرة دليلا على تراجع دور بيروت الثقافي. ويضيف في الفصل الثامن والتاسع والعاشر، صورة بانورامية لانتعاش الأدب والشعر في بيروت وكيف ضمر دورها مع مغادرة كبار الكتاب العرب لبنان كمحمود درويش ونزار قباني وأدونيس، وكيف رحلت الأقلام اللبنانية إلى باريس ولندن حيث وجدت مناخا للحرية والإبداع والأمان.
أما الفصلان الأخيران فيطرح المؤلف فيهما عودة الأمل بولادة ثانية لبيروت عاصمة ثقافية من خلال معالجته مسرح زياد الرحباني، والسينما اللبنانية.
ينطلق البحث للإجابة عن سؤال التفافي: كيف أصبحت بيروت عاصمة ثقافية؟ ولماذا كانت عاصمة ثقافية؟ وكيف وصلت إلى الطريق المسدود؟
تبدأ سيرة بيروت كعاصمة ثقافية بعدما ثبتت النهضة العربية المعاصرة أقدامها في أواخر القرن التاسع عشر، وازدهرت المدارس والجامعات والصحف والمطابع، وتنوعت مجالات الإبداع. ولعل جبران خليل جبران هو خير من مثل النهضة الثقافية العربية في الربع الأول من القرن العشرين، ذلك أنه فتح آفاقا جديدة في اللغة والتعبير تركت أثرا عميقا في كتاب العربية. ومن المفارقات الإيجابية أن جبران الذي أمضى الجزء الأكبر من حياته في أميركا، وهو بهذا المعنى ابن الثقافة الغربية، كان أيضا ابن بيئته العربية في اللغة والعادات والتقاليد، وهذا المزيج جعله يبدع رسما وأدبا لم يكن سائدا لا في الشرق ولا في الغرب.
جبران ظل ابن البيئة العربية وبقي محتفظا بروحها وبتمايز في روحانية النص جعل من كتابه «النبي» أحد أهم الكتب في القرن العشرين.
قبل 40 عاما كتب هشام شرابي، المفكر الفلسطيني المقيم في أميركا، بحثا عنوانه «المثقفون العرب والغرب»، ومن خلاصات هذا البحث أن شرابي ميز بين مثقف عربي مسلم ومثقف عربي مسيحي، وقال إن الأول أسير التحريم بينما الثاني المثقف المسيحي يمتص الثقافة الغربية ويتبناها. وتابع إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الآخر المقيم في أميركا، الفكرة نفسها في كتابه «صور المثقف» المنشور سنة 1994. لكن إدوارد سعيد تطور مفهومه فيقول: «إذا انتقد المثقف الأميركي العراق ونظامه في عهد صدام حسين فإن ذلك يستتبع أن تستحق الولايات المتحدة الانتقاد نفسه. ولكن المثقف الأميركي لم يفعل، لأن دوافعنا كأميركيين أكثر سموا، وصدام هو هتلر أما نحن فتحركنا دوافع نزاهتنا ومحبتنا للغير، لذا فإن حروب أميركا عادلة. وحتى عندما ترتكب إسرائيل المجازر وتشن الحروب على بلاد أخرى فإن مثقفي أميركا لا ينتقدون إسرائيل بينما يشغلون أنفسهم بانتقادات الضحايا. فالمثقف الأميركي يكتفي بالدعم الأعمى لسلوك بلاده وإما أنه لا يبالي. لكن إدوارد سعيد رمى بحجر عبر بوابة فاطمة قبل رحيله بفترة قصيرة».
في الخمسينات من القرن العشرين، وبعد فترة رمادية سادت الثلاثينات حتى أواخر الأربعينات، ولدت نهضة أدبية في بيروت استمر إبداعها حتى عام 1975، تميزت في بداياتها بالاتجاه الروحاني مع كمال جنبلاط الذي اتخذ من البراهمان وتعاليمهم وحياتهم الروحية نموذجا له، كما تابع ميخائيل نعيمة مسيرة جبران الفكرية وانغمس في الروحانية الصينية الهندية ومزجها بمسيحية مشرقية. ثم اتجهت نحو المضمون الفكري والالتزام وتركت أثرا عميقا في أدباء وشعراء المرحلة. ففي عام 1953 صدر العدد الأول من مجلة «الآداب» التي دعا فيها صاحبها سهيل إدريس إلى «الأدب الملتزم» و«الفن الملتزم»، والمقصود الالتزام بقضايا الإنسان فلا يكون «الفن للفن». فعلى الأديب أن يكون شاهدا على عصره وكاشفا لمعاني أحداثه، فعليه يقع الدور الأهم في تطوير المجتمع، وهذا العمل لا يتم بالهتاف والدعاية بل بإرهاف نواحي الأدب الفنية. كما على الأديب أن ينبذ الالتزام الحزبي والسلطوي ولا يلتزم إلا بضميره ووعيه.
بيروت الخمسينات والستينات والسبعينات ازدهرت عاصمة للثقافة العربية واستقطبت بفضل جو الحرية والمؤسسات التربوية والإعلامية خيرة الكتاب والشعراء والمثقفين العرب، وبحق كانت بيروت في هذه المرحلة واحة لأخصب مراحل الإبداع العربي في الشعر والمقالة والأدب والرواية.
يقول المؤلف إن للثقافة الشعبية علاقة وثيقة بالهوية الوطنية، وهذا يصح في لبنان أكثر من أي بلد آخر، وبخاصة مع الرحابنة وفيروز. فقد استطاع هذا الفريق بمساعدة آخرين في الفترة الممتدة من 1950 - 1970 تأسيس شخصية ثقافية مميزة للبنان.
عندما ابتدأت بيروت مسيرتها الموسيقية عام 1950 كانت القاهرة قد قطعت شوطا عمره 30 سنة في اللحن والكلمة والأسلوب، وكان من السهل أن تقلد بيروت القاهرة فتصبح تابعة وتبقى القاهرة عاصمة ثقافية موسيقية وحيدة لكل العرب. وهذا ما حصل مع كثير من الفنانين اللبنانيين والسوريين، حتى فيروز في بداياتها غنت أعمالا بأسلوب ليالي القاهرة. ولكن حصل شيئان في بيروت الخمسينات خلقا ظروفا مواتية لولادة نهضة موسيقية مختلقة عن القاهرة. الأول: تسلم الموسيقار حليم الرومي إذاعة لبنان ووظف طاقات مثقفة ومتعلمة لتدير الإذاعة. والثاني: إطلاق مهرجانات بعلبك الدولية سنة 1957، التي سمحت بخروج طاقات الرحابنة وغيرهم إلى المستوى الدولي إلى جانب عروض فنية من أوروبا ودول أخرى.
ويستنتج المؤلف أنه قبل مهرجانات بعلبك وصعود ظاهرة فيروز والأخوين رحباني الفلكلورية لم يكن تراث جبل لبنان وأذواقه وقيمه معروفة في بيروت والمناطق الأخرى. ومع ظهور أعمال فيروز والرحابنة عام 1957 وإذاعتها المتكررة على الراديو تحولت هذه الأغنيات الجبلية تدريجيا واتخذت النمط السائد الذي نعرفه اليوم بالأغنية اللبنانية.
زياد الرحباني، كان من المفترض أن يكون ابن أبيه وحامل مشعله، لكنه سرعان ما قلب الطاولة وتحول إلى مشروع منفصل يتعاطى بحساسية أكبر مع الواقع اللبناني المتفجر. وفيما عكس الأخوان رحباني في أعمالهما لبنان كمشروع وطن يحتاج إلى هوية موحدة وثقافة جامعة، فكك زياد هذا اللبنان مستعيدا في مسرحياته تنوع البلاد الديموغرافي والتعدد الطائفي، والمصائب الاجتماعية.
حمل زياد تراث الرحابنة وأدغمه في مشروعه الخاص، فطور وجدد وأبدع. فلم يكن اشتغال زياد مع فيروز ومواصلة تقديم أعمال عاصي ومنصور توقا إلى ماض ذهب مع الريح، بل كان حنينا إلى إبداع الرحابنة، وهو ما يستحق أن يستمر ويبنى عليه. هو شوق من زياد لبيروت سابقة، وصلت إلى أوج العمل الفني وهو يريد أن يقول للأجيال: «نحن مستمرون».
في يوم من أيام أبريل (نيسان) من عام 1975 ثمة من أطفأ الضوء في بيروت، لكنها كطائر الفينيق تعود من رمادها وتعلن عاصمة ثقافية للعالم.